
تاريخ وأسرار غرفة العمليات (مسرح الجراحة) منذ القرن الـ16 وحتى الآن
دائمًا ما ننظر إلى غرفة العمليات بدهشة وفضول وبعض من الخوف بسبب رهبة هذا المكان، ولكن الرهبة والخوف الحقيقي هو عندما كانت غرفة العمليات عبارة عن مسرح للجراحة في بريطانيا قديمًا!
مسرح بمعنى الكلمة، مدرجات أو مقاعد ومتفرجين وخشبة يُلقى عليها المريض بدون تخدير ويتم إجراء الجراحة له أمام الجمهور، وسط صرخات الألم من المريض وأصوات المتفرجين
المتألمين لأجله.
في القرن الـ16 كان الجراحون يقومون بعمليات التشريح في مسارح أمام طلاب الطب، كي يتعلموا طريقة التشريح عمليًا، بعدها تطور الموضوع ليصبح إجراء جراحات لمرضى أحياء غير مخدّرين أمام الجمهور من العامة والمهتمين والفضوليين والأطباء.
وبسبب الإقبال الشديد على مشاهدة مسرح العمليات، أصبحت لها تذاكر بسعر رمزي يشتريها الجمهور بعد الإعلان مسبقًا عنها.
في القرن الـ19 أصبحت قاعات المحاضرات الطبية هي المكان الذي يعرض فيه الجراحون عملياتهم أمام 450 متفرّج في مدرجات القاعة.
وللمزيد من الرعب، كان هناك صراع بين المريض الغير راغب بإجراء العملية والمتطوعين الراغبين في تثبيته. شجاعة الجراح وسرعة تصرفه هي الشروط الواجب توافرها في الجراح الرئيسي للعملية، حيث يقف مرافق بجواره يسجل الوقت بمؤقت في يده، ويتم جمع الدم في صندوق من النشارة الخشبية ويترك الجروح بدون خياطة!
شخصية الجراح كانت تعكس دائمًا الرغبة في أداء فن الجراحة أمام جمهور. يفترض أن يكون للجراح "عين النسر وقلب الأسد ويدي السيدة وتألق الممثل الماهر"، كما جاء في وصف الجراح الاسكتلندي جيمس هيغ فيرغسون.
في العصور القديمة، كانت غرف العمليات مقاعد للإثارة والمأساة، كانت صرخات المرضى أثناء الجراحة تثير جنون المشاهدين، إلى أن تم تطوير التخدير في أربعينيات القرن الـ19 مما أدى إلى تقليل الصراخ أثناء الجراحات، فأصبح الإقبال على العمليات أكثر بكثير.
كلما زاد عدد المتفرجين، كلما انتقل الجراحون إلى مسارح أكبر لاستيعاب الحشود المتفرجة، ثم في السبيعنيات والثمانيات من القرن الـ19 تم تطوير العروض الجراحية لتصبح وسيلة ترفيه تجذب الجمهور بشكل كبير.
وصل الأمر لقيام بعض المستشفيات حينها بتجديد مسارحها لجذب المزيد من الجمهور الأثرياء لمشاهدة عروضها الجراحية وكسب السمعة والمال.
لم يبق الحال كما هو عليه، بل أثار غضب الكثير من العلماء اللذين حذّروا من إجراء العمليات بهذا الشكل وتعرض أكثر من 50% من المرضى إلى الموت بسبب عدم التعقيم.
جراحون وعلماء وأطباء قاموا بثورة مضادة للتطهير، لم يقبلوا استمرار هذه "المجازر" واستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتأسيس مقدسية غرفة العمليات.
اندثرت تلك الأيام، وتطورت التقنيات عبر السنين لتصل غرفة العمليات إلى شكلها الحالي، الذي يقوم فيه فريق التمريض بالتطهير والتعقيم بشكل صارم، كما يتم التأكد من التهوية والتكييف لضمان تدفق الهواء، وضبط مستوى الرطوبة التي تكون 50% على الأقل.
بالإضافة إلى تعقيم الغرفة، يقوم الأطباء والفريق الطبي بتعقيم يديهم بصابون خاص ثم بالمطهر الذي تكون فيه نسبة الكحول عالية، كما يتم ارتداء ملابس معقمة بالكامل، ويستغرق تعقيم اليدين للطبيب حوالي 5 دقائق لضمان التخلص من الجراثيم قبل دخول غرفة العمليات.
عادةً ما تكون غرفة العمليات باردة، للحدّ من وجود البكتيريا الضارة، كما تكون الإضاءة ساطعة مع الحرص على عدم وجود ظلال.
يتم تعقيم جميع الأدوات المستخدمة في العملية ووضعها على سطح فولاذي مقاوم للصدأ، ويوجد بجانب سرير العمليات أكبر جهاز في الغرفة وهو جهاز التخدير، الذي يحتوي على كثير من الأزرار والأجزاء التي بدورها تضبط جرعات غازات التخدير بشكل دقيق ومدروس.
جهاز التخدير يساعد على الحفاظ على التنفس الصحيح للمريض أثناء الجراحة، ويضمن تدفق الأكسجين الكافي إلى أعضاء الجسم. يتم ضبط جهاز التنفس بواسطة أطباء التخدير المختصين لضمان أن المريض يتلقى التخدير بطريقة آمنة وفعالة خلال العملية الجراحية، وبهذا يكون طبيب التخدير هو بطل غرفة العمليات والمسؤول الأول عن سلامة المريض.
في عصرنا الحالي، تطورت التقنيات الطبية بشكل هائل لتصبح غرف العمليات متطورة وكاملة ونسبة الخطأ فيها تكاد تكون معدومة في حال وجود أطباء وفريق ماهر في استخدام هذه التقنيات.
وبالرغم من اندثار "مسرح الجراحة" بمعناه القديم، إلا أنه لا زال البريطانيون يستخدمون كلمة "مسرح العمليات Operation theater " بدلًا من غرفة العمليات.
ولو تأملنا هذا الاسم بعيدًا عن أصوله، فهو تعبير رائع للأمر، حيث أن الغرفة هي المسرح والأطباء هم الأبطال والفريق الطبي هم المساعدين والعملية هي المسرحية التي يجب أن تكتمل بنجاح مهما كانت مرهقة، ويتم إسدال الستار بعد التأكد من انتهاء العملية "المسرحية" بنجاح.
كيف كانت غرفة العمليات عبارة عن مسرح للجراحة، له جمهور وكيف تطور ليومنا هذا!